وائل شرحة
الملائكة فقط يفعلون ذلك
الساعة تُشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل .. توقف بي المصعد في الدور الثالث، كانت الكثير من العيون متراكمة في صالة الانتظار .. تحركتْ جميعها لتمسح القادم الجديد وتعود إلى توهانها المُثقل بأوجاع الحياة .
واصلتُ السير باتجاه المكتب الذي أقصده يصاحبني سؤال .. ما الذي يفعله هؤلاء هنا في هذه الساعة المتأخرة من ليل صنعاء؟ الحيرة زادت اتساعاً بزيادة العيون المنتظرة في الغرفة المقابلة للممر.
لم يمر وقتٌ طويلٌ حيث كنت أجلس على أريكة جلد بُنِيَّة بينما استشاري القلب مُنهمك في فحص أحد قلوب الزائرين.. بعينٍ دقيقةٍ تتنقل ما بين صدر المريض وشاشة الأشعة.
لقد أدركتُ حينها بأن كل تلك العيون ليست سوى عناوين مختصرة لقلوب أنهكتها أوجاع الحياة وجاءت تبحث عمَّا يُعيد لها شيئاً من نشاطها.
قد يهمك..نقابة مُلاك صيدليات المجتمع تعلن عن 4 مشاريع للصيادلة
مرت ثوانٍ مضطربة قبل أن ينظر إليَّ الدكتور بعينين لامعتين وابتسامة تزيل الوجع قائلاً ” اعذرني يا وائل تأخرت عليك، لكنك ترى الآن ما أنا فيه”.
” ثقة الناس بك.. تقودهم إليك في هذه الساعة” جاء ردي سريعاً .. فابتسم مرة أخرى واستأنفت حديثي.. ” ابتسامة الطبيب وإنسانيته صلاة بدون وضوء كما يقال، دكتور” قلتها وأنا انتقل بخطوات خجولة إلى الكرسي المقابل له.
اتفقنا على أن يكمل تشخيص الثلاث الحالات المتواجدة في مكتبه ثم نتحدث في الموضوع الذي جئتُ من أجله.
كانت الحالة الأولى .. لامرأة تبدو في الخمسين من العمر وعلى صوتها مسحة حزن عميقة سرعان ما اكتشفتُ كُنهها وهي تتحدث للدكتور” أبني طه.. أنا تحسنت الحمد لله، لكن أوقات أشعر بتعبٍ، و تزيد من وجعي الأسعار المرتفعة للأدوية المقرر استخدامها بشكل يومي، أنها غالية جداً”.
ينظر الدكتور في ملفها الطبي، ويتفحص أدويتها الأربعة، قبل أن يُعفيها من استخدام اثنين ويؤكد على الاستمرار في البقية مع بعض الممارسات الطبيعية.. لتخرج الخمسينية يديها مرفوعة باتجاه السماء .. لا أدري لماذا شعرتُ بأن أدعيتها البسيطة كانت تصل إلى مقصدها وكدتُّ أقول لها “ادعي لي فأنا صديقه”.
إقرأ أيضاً..عدن تعلن إصابات جديدة بكورونا وتعز تتسلم حصتها من لقاح “استرازينيكا”
يقترب رجل ستيني ، بابتسامة استمدها من ابتسامة وترحيب الطبيب وبدأ حديثه” يا طه الحمد لله أنا تحسنت بعد علاجك لكن أوقات يؤلمني الصدر” كان يشير إلى فم المعدة تقريبا.
الطبيب ينظر في ملفه قبل أن يفحصه بجهاز التلفزيون ويطمئنه “ما شاء الله تحسنت يا عم محمد .. قلبك يعمل بزيادة ٣٠% عن المرة السابقة.. يبدو أننا سنزوجك قريباً فقد أصبحت شاباً” كلمات الدكتور زرعت في عينيه إشراقة جميلة حملها معه وهو يخرج من المكتب.
أما الحالة الثالثة فكانت لرجلٍ في نهاية الثلاثينيات قادماً من محافظة إب يرافقه رجلٌ آخر يقاسمه الألم والتعب تنزف به نظراتهم.
وبعد نقاش وفحص وتشخيص طويل، أخبره الطبيب بأنه بحاجة إلى دعامات، قبل أن يطلب من الدكتور بأدب تركيبهن في مركز القلب الحكومي الذي يترأسه طه.
دار حديث سريع بين المريض ومرافقه، قطعه صوت الطبيب.
شيءٌ ما حمل صوت الطبيب بنبرة عدم الرضا وهو يقول لهما ” ليس عليكم أن تكذبوا أو أن تمارسوا الحيلة كوسيلة لإجراء العملية.. أنا إنسان قبل أن أكون طبيباً، أخبرني بظروفك كأخ وصديق وسأجري لك العملية في مستشفى خاص على حسابي الشخصي لكن لا تكذب عليَّ وتستخدم مذكرات وتوصيات مزورة من سماسرة”.
غادرا بعدها المكتب بعد أن وعدهما الدكتور، صادقاً، بأنه سيقوم بإجراء العملية بأحد المستشفيات الخاصة على نفقته. وهنا أدركت لماذا القلوب تستهوي طه، ولماذا ينادونه المرضى باسمه دون صفته.
إنهم لا يرونه بعيون المريض إلى الطبيب بل بعيون الأخ لأخيه والابن لأبيه والصديق لخليله.
فما قيمة الطبيب بدون إنسانية.. ومن لقلبونا إن تعبت بعد الله غير طه وأمثاله ممن يعملون حتى ساعات متأخرة من الليل ليعيدوا للقلوب نبضها ويزيلوا غبار الوجع عن العيون.
دقائق عشت فيها انفراجات هموم وإزهار آمال ربما عاشها شخص ما قبلي بعشرات السنين جعلته يطلق على هذا النوع من الأطباء اسم ملائكة الرحمة، فالملائكة فقط يفعلون ذلك, وطه واحداً منهم.
*مدير عام المجلة الطبية