“لم أتخيل، ولو للحظة، أن أفقد طفلي محمد بعد أن فقدت أخيه الأكبر معتز، ولسبب كهذا”.. يبدأ أبو معتز سرد رحلة المعاناة التي بدأت بمرض معتز حين كان في الرابعة من عمره، وإصابته المتكررة بالإسهال الحاد والجفاف والهزال رغم عرضه على أطباء واستشاريين معروفين في اليمن.
ظلت حالة معتز رهينة تكهنات الأطباء، فثمة من شخّصها بجرثومة في القولون ومن حكم بأنها لحمية في الشرجية حتى أنه أجرى عملية استئصال لها.هكذا بدأ أبو معتز في سرد رحلة المعاناة التي عاشها وأسرته والتي ابتدأت بمرض معتز في الرابعة من عمره واصابته بالإسهال الحاد والجفاف والهزال حتى تم عرضه على أكبر الاختصاصيين والاستشاريين في اليمن.
كل ذلك -يتابع أبو معتز- بقي دون جدوى، حتى وصل به الأمر إلى حمل ولده الذي لم تتحسن حالته لزيارة مشايخ القرآن معتقداً أنه سحر، ومن ثم زيارة طبيب أعشاب ذاع صيته على وسائل الإعلام. لكن النتيجة أتت عكسية، إذ تسببت الأعشاب لابنه بجفاف حاد نتج عنه طفح جلدي وجروح حادة خلف أذنه.
“أمام عجز الأطباء عن تشخيص حالة ابني معتز وتدهور حالته قررت عام 2017 السفر به إلى الهند، لكن ظروف الحرب وقفت عائقاً إذ استغرق إخراج التأشيرة عشرين يوماً، وكان ذلك بعد وفاة معتز بيومين”.
لم تتوقف آلام الوالد المفجوع عند هذا الحد، إذ بدأت الأعراض تظهر على طفله محمد الذي كان في سن الثانية من عمره، فقد بات يعاني انتفاخا في البطن وتوقف عن النمو وعاد أبو معتز ليتخبّط مع سوء التشخيص من جديد في اليمن.
لم ينتظر أبو معتز كثيراً هذه المرة، فقد حمل ابنه إلى مصر ليعرضه على مختص جهاز هضمي للأطفال. هناك، وبعد إجراء التنظير وأخذ خزعة (عيّنة) للفحص من جسم محمد، ظهرت النتيجة غير المتوقعة للعائلة “محمد مصاب بالسيلياك (حساسية شديدة على مادتي القمح والشعير)”.
عرفت العائلة سبب مرض محمد، وقبله معتز، واستمعت لكلام الطبيب وهو يصر على ضرورة الالتزام بالحمية والامتناع عن تناول أية مادة تحتوي على الغلوتين (تشكل 80% من البروتين الموجود في بذرة القمح).
يروي الوالد كيف استعاد محمد صحته شيئاً فشيئاً وبدأ جسده بالنمو، لكن بعد عودة العائلة إلى اليمن ظهرت العوائق والتحديات أمام العائلة، فالمواد المخصصة لمصابي السيلياك بالكاد يمكن الحصول عليها، وفي حال وُجدت فإن أسعارها باهظة، يُضاف لمشكلتي الوفرة والسعر، وفق أبو معتز، الجهل المحيط بهذا النوع من الأمراض.
يقول: “بسبب جهل الأقارب وتعاطفهم مع محمد الذي لم يستسغ المواد الخالية من الغلوتين، كانوا يطعمونه بالخفية أطعمة تحتوي على هذه المادة، ما أدى لكسر الحمية وصعّب تدارك حالته الصحية، ليلحق بأخيه معتز وهو في السادسة من العمر”.
المرض الصامت
يجهل الكثير من الناس ماهية مرض السيلياك (المعروف كذلك بالزلاقي أو التحسسي)، وهو مرض مناعي تحسسي مزمن، يظهر عند تناول بعض الأطعمة التي تحتوي على الغلوتين، فيقوم الجسم بإفراز مواد مضادة لنفسه بدلاً من مهاجمة الميكروبات، وفق لاستشاري الأمراض الباطنية مروان البكري.
والسيلياك يصيب جميع الأعمار، ويظهر عادة عند الطفل عندما يبدأ بتناول بعض المأكولات، ومع أنه غير مرتبط بالعوامل الوراثية، لكن تبيّن، حسب كلام الطبيب، أن الأبناء الذين ثبتت إصابة والديهم بهذا المرض هم أكثر عرضة للإصابة به.
يشير البكري إلى أن أبرز أعراض الإصابة بالسيلياك هي الإسهال المزمن الذي يؤدي للإصابة بالهزال نتيجة نقص الفيتامينات والمعادن ومضاعفات فقر الدم وهشاشة العظام، بينما يتمثل العلاج الأساسي للمصابين به في الحمية التي تحظر تناول الحنطة والشعير وأي مواد تحتوي على الغلوتين.
وكما أظهرت حالة محمد، فالحمية تقتضي الصرامة، وأي إهمال أو كسر لها يسببان ضعفاً ووهناً تاماً ويؤديان لمضاعفات خطرة تصل حد الإصابة بسرطان المعدة أو الأمعاء.
بسمة والسيلياك
“كنت بانتظار الموت عندما فقدت القدرة على المشي والأكل والشرب وفقدت حتى شعر راسي”.. تُخبر بسمة قصتها مع السيلياك وكيف كانت محظوظة باكتشافه قبل فوات الأوان، وهو ما دفعها نحو توعية الآخرين لهذا المرض من خلال مؤسسة “يمن سيلياك”.
“فكرت بالمؤسسة بعد رحلة معاناة طويلة مع المرض، وقد لزمت الفراش لمدة عام بسبب جهل الأطباء بحالتي، إلى أن توصلت طبيبة تُدعى سعاد إلى تشخيص حالتي ومنعتني من تناول مشتقات القمح على الفور”.
بدأت بسمة باستعادة صحتها فور التزامها بالحمية، لكن لم تتوقع أن تنتكس من جديد بمجرد تناول ربع قرص من الروتي (خبز يمني مصنوع من الدقيق الابيض الناتج عند طحن القمح بعد ازالة القشرة)، وهو ما دفعها للبحث حول تفاصيل المرض.
“أصبح الإنترنت وبعض المواقع كموقع أم أوس ( ناشطة سعودية وأم لثلاثة مصابين بالسلياك وصاحبة مبادرة حياتي بدون قمح) المرجع لتوسيع معرفتي بالمرض والاطلاع على الممنوع والمسموح في حالتي”، تقول بسمة، شاكية من عدم توفر المواد الوارد ذكرها في اليمن، بالاضافة إلى ارتفاع سعرها وكميتها المحدودة في حال وجدت، فقيمة الثلاثة الأقراص الروتي الخاصة بالسيلياك، مثلاً، تصل إلى 4 آلاف ريال .
هذا الواقع غير المساعد لمرضى السيلياك في اليمن دفع بسمة لإطلاق مبادرة أسمتها “بسمة حياة”، قامت من خلالها بالعمل على نشر الوعي وتقديم الدعم النفسي ونصائح للطبخ لمن يعاني من هذا المرض، وذلك عبر تطبيق واتساب، ثم طورت المبادرة لتصبح مؤسسة “يمن سيلياك” التي بلغ عدد المنضمين إليها 150 مصاباً، تقوم المؤسسة بتوعيتهم ونقل معاناتهم للجهات المختصة وعمل ورشات لتعليمهم طبخ الوجبات الخاصة لهؤولاء المرضى.
بموازاة ذلك تقوم المؤسسة بتوفير المواد الخالية من الغلوتين، بحسب قدرتها، وذلك من خلال التواصل مع متبرعين والمشاركة في مهرجانات ومؤتمرات طبية للتعريف بالمرض.
دور الجهات الرسمية
كما في حالة طفلي أبو معتز و بسمة التي كانت أكثر حظاً منهما، يعاني كثيرون من المصابين بالسيلياك في اليمن من ضعف الاهتمام ومن غياب الدعم الكافي لأبسط الحقوق، وهو توفير طاحون خاص لطحن الحبوب الخالية من الغلوتين، لأن بقايا الحبوب الأخرى تؤثر كذلك على المعدة.
وتفتقر وزارة الصحة لوجود إحصائيات عن مصابي السيلياك في اليمن، ويعود ذلك إلى انعدام الدراسات حول واقعهم وفهم الأشكال المختلفة لمعاناتهم، لكن مديرة إدارة التغذية في وزارة الصحة العامة في صنعاء، أماني السراجي تُطمئن بأن الوزارة تسعى مستقبلاً لتدشين حملة تعنى بمصابي السيلياك.
وبينما يبقى الدعم الرسمي في إطار الكلام -حتى الآن-، يجد مصابو السيلياك أنفسهم بمواجهة تحديات متعددة، منها الجهل في التشخيص أو تأخره، والنقص في المواد اللازمة للحمية والعلاج، والأسعار الباهظة لمواد الغذائية الخاصة بهم ، ما زال يعتبرها كثيرون ترفاً.
أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا وغزة واليمن، من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة “دعم الإعلام الدولي” (International Media Support).