المجلة الطبية

الحب عدوى!

-
د. أكرم السقاف 

في الأربعين من عمره أو هكذا يبدو ذلكم الشاب الريفي الذي دلف عيادتي، تظهر على سحنته بعض معالم الثراء إلا أنه على غير عادة بعض مرضانا لم يكن يصطحب مرافقا معه.

بادرته بالسؤال التقليدي: مما تشكو؟

أجاب: “نشتي جهال”.

مازحته كنادل في مطعم يلبي طلب زبون: كم تشتي اثنين.. ثلاثة؟

طبع على فمه ابتسامة حزينة اعقبها بقوله: “الحاصل كم ما وقع”.

انتابني شعور لا أدري كنهه وأنا أستمع إليه وهو يسرد قصته المرضية، طلبت منه بعدها الاطلاع على فحوصاته السابقة فقد ذكر أنه كانت له زيارات وزيارات لعدد كبير من الأطباء.

تصفحت أوراق التحاليل وكانت حيرتي تزداد مع كل ورقة أستعرضها.

يا أخي: تحاليلك تشير بصورة جلية بأنك سليم وليس لديك مانع للإنجاب ، لربما كانت المشكلة تتعلق بزوجتك فهل أجريت لها تحاليل العقم ؟

كنت أكرر له السؤال عن تحاليل الزوجة وكان هو يتجاهل أسئلتي في كل مرة محاولا حرف مسار الحديث عن الزوجة إلى الحديث عنه فقط وعن وجود مانع لديه يعيقه من الإنجاب.

قال لي: يا دكتور هناك أشعة أجريت لي وبينت أن لدي دوالي في الخصية ، قالها وهو يلوم نفسه وكأنه يتمنى أن يكون هو السبب في تأخر الإنجاب وليست زوجته.

دهاني سيل من الاستغراب وعلامات الاستفهام فلقد اعتدت على رؤية الأزواج يطيرون فرحا فور إخبارهم أنهم طبيعيون وأن عليهم متابعة حالات زوجاتهم، يفرحون فرحا يكسو وجوههم رونقا  كمتهم حصل على البراءة  في قضية أرّقته طويلا.

قلت له: يا اخي هذه الأشعة تتحدث عن دوالي من الدرجة الأولى وهو أمر غير ذي بال وخاصة أن تحليل المني لديك طبيعي جدا كما أن الفحص السريري و بقية الأشعة لم تظهر أي دوالي لديك.

يستنكر ما أخبرته به وتتصاعد نبرة صوته بينما تزداد عندي مظاهر الاستغراب عندما قال: لكن أنا عندي دوالي وقد قرأت انه من الممكن حدوث إنجاب بعد عملية الدوالي.

أجبته في حيرة ممزوجة بقليل من الغضب: لكنك سليم ولست مصابا بأية دوالي.

كان ما يزال مصرا على تجنب الحديث عن وضع الزوجة لذا فاجأته سائلا بطريقة مباشرة: يا أخي إن الحديث بهذه الطريقة يضيع وقتي لذلك واختصارا للوقت أخبرني عن وضع زوجتك؟

عندها نظر إلى الأسفل وقال بصوت متهدج: “بيقولوا إنه الدورة غير منتظمة”.

قلت له: كيف بيقولوا، أخبرني أنت هل تلاحظ أن الدورة غير منتظمة؟

نعم غير منتظمة و كل الأدوية لم تحل المشكلة، كان يقولها وكأنني انتزعت منه اعترافا ربما يسوقه إلى المشنقة.

طيب يا أخي واضح أن المشكلة مش عندك و إنها عند زوجتك هكذا قلت له، لكنه أجابني: “زوجتي قد تعبت من العلاجات يا دكتور فقلت يمكن يا دكتور يمكن لو عملت عملية…..”.

عملية أيش يا أخي، أقول لك أنت طبيعي و زوجتك عندها مانع واضح، طيب فكروا بالحقن المجهري الذي يسموه أطفال أنابيب.

“حاولنا يا دكتور بس قالوا حتى هذا الخيار غير مناسب لزوجتي”.

قلت: إذن طيب يا أخي أمامك طريقان فقط لا ثالث لهما إما أن تقتنع بوضعك فقد وصلت إلى أقصى حدود ما هو متاح أو فكر بالزواج بثانية.

ما أن أتممت كلامي حتى علا وجهه  احمرار كأنني صعقته بالكهرباء فرد لي الصعقة بأسوأ منها قائلا: “يا دكتور أنا أصلا أشتي أطفال على شأنها، أما مع غيرها لا أشتي حياة و لا جهال”.

يا الله ما هذا الحب .. لو لم أسمع وارى ما صدقت..!

قلت له: طيب وليش كل هذي الفحوصات وليش بتدور عملية وأنت داري أن المشكلة عند زوجتك.

رد علي:” ‌شغلني الأهل وكنت كلما عملت تحليل أتمنى أن يخبرني الطبيب بأن لدي مشكلة في الإنجاب علشان أخلص ويقنعوا و يهجعونا”.

فقدت اهتمامي بالوقت و تجاهلت تلميحات الممرضة المتكررة بازدحام العيادة و تململ المرضى من تأخر المريض عندي لفترة طويلة فقد أثار شجوني هذا المريض او بالأصح العاشق.

طيب و بعدين؟

“عملت تلفزيون عند واحد قال عندي دوالي و سألته هل ممكن تعمل عقم قال ممكن. لكن لو ما زرت طبيب المسالك قال نفس كلامك”.

طيب لماذا ما زلت تود إجراء العملية؟!.

“يا أخي أهلي قد قنعوا مني لكن زوجتي لا يفارقها الشعور الذنب، وإنها من حرمتني الولد، وبدأت تطلب مني أتزوج، وأنا أدرك أن الموت أهون عليها من هذا الطلب وهي لا تعلم أنه كذلك علي أهون .. فقلت في نفسي لو عملت العملية حتى لو ما فادت أقل شيء تصدق انه عندي انا مشكلة وتهدأ ونقنع كلنا”.

حاولت أن أخرج من حالة الذهول التي أدخلني فيها  بكلام اعتدت أن أقوله للحالات التي لا يعرف الطب لها علاجا رغم قناعتي بعدم ملائمتها لهذا الزوج ، ومع ذلك فقد تركني هذا الزوج ضاحكا و هو يقول لي: يا دكتور الجنة ما بش فيها جهال ولو كانوا نعيما إنهم ملان الجنة.

صدمني منطقه ورضاه وتضحيته و و..

“يا دكتور يا دكتور أين راح حسك أخرّتنا؟”

عفوا سرحت شوية، اسمك لو سمحت؟

شعور جميل ظل يلازمني أياما حتى تمنيت أن تتذوقوه فحاولت أن أسرد أحداثها لكم.

هل تعتقدون أن وجود رجل كهذا صعب التكرار أم أنكم تميلون للرأي الذي يقول أنه لربما لو علمنا حال زوجته و حبها لقلنا انه قد قصّر في حقها.

 

الآن.. بإمكانك الإشتراك في قناة الطبية على اليوتيوب

Exit mobile version