الصيدلة هو تخصصي الذي اخترته عن قناعة تامة، بعد أن قرأت كل تفاصيل هذه المهنة، ولم أدخله صدفة كحال الكثيرين.
لقد تعززت قناعتي بأن أكون صيدليا حينما أدركت بأن الصيدلي ليس مجرد شخص يقوم بصرف الدواء كما يتصور الكثير – وهو تصور نمطي مبسَّط ومختزل-، بل هو من يستخلص المواد الفعالة من مصادرها ويصنع الدواء. أي أن جوهر هذا التخصص يبدأ من جذور الدواء وما يزال مبثوثًا في الطبيعة ويرافقه وصولا للمريض، ثم يواصل مهمته ويشرح للمريض دواعي وموانع الاستخدام والأعراض الجانبية المحتملة، ومن يحدد الجرعة وفقا للعمر والوزن والجنس. هكذا، وبناءً على ما سبق، زاد حماسي لدراسة هذا التخصص أكثر حينما عرفت أن الصيدلي هو من يجري الأبحاث ويكتشف الدواء.
لقد كان اختياري لهذه المهنة، أشبه بقدر ملتصق بي، ووجدت ذاتي فيه.. قدري أن أكون صيدليا وأعمل في هذا التخصص، ولهذا فحساسيتي عالية إزاء كل الحالات المتطفلة على هذا التخصص من خارجه، فبقدر علاقتي المتعمقة بتخصصي تصيبني الخيبة وأنا أرى حشدا من السماسرة يتسلقون جدران المهنة ويمارسون الصيدلة دون أي مؤهل يمنحهم الحق بذلك. فلو أنهم يدركون خطورة هذا التخصص، أو حتى لو كان لهم بصيص خبرة فيه كما يزعمون لما تجرأوا أن يغامروا في ممارسته بتلك الخفة الصادمة, ويستبيحون أرواح المرضى ويرتكبون الجرائم بحقهم دون رقيب أو حسيب. قبل فترة وأنا في طور مواصلتي دروب تخصصي، كنت أمارس شغلة جانبية تتعلق بهوايتي الصحفية، وتناولت تحقيقا حينها في إحدى الصحف بعنوان (من سمكري إلى صيدلي.. حينما يتحول الدواء إلى سم قاتل) بعد أن صادفت صديق كنت أعرفه منذ فتره، تمرد على الدراسة وتوقف عن التعليم في الصف السادس الابتدائي وقذفت به شقاوته إلى ترك الدراسة والعمل في إحدى ورش السمكرة، وبقدرة قادر وبين ليلة وضحاها أصبح يعمل في إحدى الصيدليات .. لم يكن يتقن الكتابة فضلا عن فك شفرات وطلاسم وصفات الأطباء، تجاهلت الأمر مبدئيا غير أن مصادفتي لنماذج كثيرة دفعتني لتناول الكارثة عبر وسائل الإعلام. من المعروف أن العلوم تنقسم مبدئيًا إلى قسمين: علوم تطبيقية (هندسية وطبية ومختلف أنواعها) وعلوم اجتماعية وإنسانية، يمكن لأي مختص في العلوم التطبيقية أن يمارس هوايته الجانبية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، كمجال شغف وبمستويات معينة، لكن العكس من الصعب أن يكون ممكنًا. بمعنى يمكن للطبيب والصيدلي أن يفقه شيئًا في مجال الإعلام.
على سبيل المثال لا يمكن للسمكري – وهو بالمناسبة تخصص تطبيقي- أن يبدو صيدليا، فأرواح البشر ليست آلة معطلة، يمكن لأي مستهتر أن يجرب هوايته فيها ويفك براغيها أو يضيف لها زيتا هنا وشحما هناك. على كل حال، الآن وقد مرَّ على كتابة تلك المادة أكثر من 10 سنوات لم أرَ سوى خيبات تتراكم باستمرار، وكوارث تضاف إلى سابقاتها، فنحن أمام حفلة جماعية لاغتصاب المهنة، وقاحة متعمدة تسكت عنها الجهات المختصة في أوقات كثيرة. أتأمل هذا المشهد العبثي بأسى، لكنه ليس يأسًا، فما يزال يكبر بداخلي حزم شديد كلما استفحلت ظاهرة المتطفلين على “مهنة الصيدلة” وما زلت أواصل تتبعهم، وفي ذاكرتي قائمة سوداء بقصصهم وكوارثهم تتضخم كل يوم، ولا بد أن أبذل جهدي لأضع حدا لهم وكبح جماحهم ووقف عبثهم حتى تعود للمهنة قدسيتها، فمهمتنا ليست ممارسة مهنتنا بل وحماية أرواح البشر ممن يستخفون بها من خارج المهنة.