تصادفنا جميعا تلك المواقف التي نظل فيها في حيرة من أمرنا حين نذهب إلى طبيب ويخبرنا أننا نعاني من مرض ما، ونذهب إلى طبيب آخر على أمل أن يدحض ما قاله الأول ونفاجأ أنه يخبرنا بأن لدينا أمراضاً أخرى، وهكذا تتعدد الروايات عن أمراضنا في حين قد لا يوجد أي مرض من تلك التي أخبرونا عنها بالمطلق.
كما يجب أن نقر بأن كل ممارس (إكلينيكي) يتوق دائماً إلى أن يقدم أفضل رعاية ممكنة لمرضاه، فما هي الحلقة المفقودة ولماذا كل هذا الاختلاف في آراء الممارسين الإكلينيكيين؟!
يعزى ذلك إلى الجهل بمعرفة وتطبيق مفهوم الممارسة القائمة على الأدلة (EBP evidence based-practice) وهو ما تنتهجه كل دول العالم المتقدمة أثناء تقديم الرعاية الصحية لمرضاها.
تتطلب الممارسات المستندة إلى الأدلة (EBP) أن تستند القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية إلى أفضل الأدلة (الأبحاث العلمية) المتاحة، الحديثة، الصالحة وذات الصلة بحالة المريض.
إذن فقد انتهى عصر الفتوى والمزاج والكهانة وقدس الأقداس في الطب، صارت الكلمة العليا لكم الأبحاث العلمية التي تبرهن على كلام الطبيب أو الصيدلاني، ولم يعد ينفع أن تبرهن أيها الممارس الإكلينيكي بأنك قد وجدت هذه المعلومة العلمية الطبية في كتاب تراثي قديم أو نقلتها من على لسان حكيم كبير أو شيخ أو قسيس.
عليك أن تفتح لي المجلات الطبية المحكّمة المعترف بها، وأن تحصي عددها وقوتها ووزنها العلمي ومدى تكرار نفس النتائج فى أكثر من مركز علمي موزعة على أنحاء العالم، هنا فقط أقتنع، هات برهانك وامنحني دليلك أمنحك الاعتراف.
قبل بدء التفكير في EBP، اعتمدت الممارسة السريرية على تجربة ممارسي الرعاية الصحية ومشورة الخبراء.
هذا أدى إلى وجود فجوة كبيرة بين ما يعرفه ممارسو الرعاية الصحية وبين ما يمارسونه، وهكذا ، أصبح واجباً ولزاماً في جميع أنحاء العالم إيجاد طريقة موحدة وسهلة من أجل الحفاظ على المعرفة الطبية محدثة وعلى أسس علمية بين جميع الممارسين الصحيين في العالم.
الممارسة القائمة على الأدلة (EBP) هي نهج متعدد التخصصات للممارسة السريرية التي اكتسبت تقدماً بعد تقديمها رسمياً في عام 1992.
بدأت في الطب (Evidence Based Medicine) وانتشرت في المهن الصحية الأخرى كالصيدلة، والمجالات التعليمية، وغيرها.
يتم تعريف EBP تقليدياً بأنها دمج لثلاثة مبادئ أساسية:
(1) أفضل الأدلة من الأبحاث العلمية المتاحة التي تؤثر على ما إذا كان ولماذا يعمل العلاج.
(2) الخبرة السريرية (الحكم السريري والخبرة).
(3) يجب أن يتم وضع أولوية لما يختاره المريض لنفسه، ومع ما يتناسب مع قيمه.
حالياً الممارسة القائمة على الأدلة (EBP) هي “عملية منتظمة يتم فيها مراجعة وتقييم واستخدام نتائج البحوث السريرية لمساعدة تقديم الرعاية السريرية المثلى للمرضى.”
يستخدم برنامج EBP أساليب متنوعة (على سبيل المثال تلخيص البحث بعناية، ووضع ملخصات بحثية يمكن الوصول إليها بسهولة ويسر، وتعليم المتخصصين في كيفية فهم وتطبيق نتائج البحوث) للتشجيع وفي بعض الحالات لإجبار المحترفين وغيرهم من صناع القرار على إيلاء المزيد من الاهتمام بالأدلة.
ما يجب علينا إدراكه هو أن المعلومات التي تردنا والمتعلقة بالطب تنمو بسرعة، واستخدام كل تلك الموارد المتاحة من قبل الممارسين الإكلينيكيين صعب للغاية.
على سبيل المثال، ما يقرب من 2000 بحث علمي يتم فهرسته في PubMed كل يوم، وهو رقم ضخم قد يجد فيه الممارس الإكلينيكي صعوبة بالغة بقراءة كل تلك الأبحاث، وهذا ما عزّز موقف مقدمي الرعاية الصحية تجاه EBP والذي ازداد وبطريقة ايجابية على مدى عدة سنوات، وأصبحت EBP مقبولة على نطاق واسع بين معظم مقدمي الرعاية الصحية، حيث أن EBP جعل الممارسة السريرية تعتمد على أساس علمي، وبالتالي تحقيق أكثر أماناً، وأكثر فعالية من حيث التكلفة، وأكثر من ذلك هي جعل الرعاية متسقة، والتي تضمن أن ما يتم تطبيقه على سبيل المثال في الولايات المتحدة يجب أن يتم تطبيقه في اليمن إذا ما تم إتّباع نفس مصادر المعلومات.
وكأهم وأول خطوة في فهم EBP هو معرفة الأشكال المتعددة للأدلة، وفهم القاعدة التي يستند إليها كل دليل، وقيمة الدليل يمكن أن تُصنّف طبقاً للتقسيم التالي، فيُرتب تنازلياً لمدى اعتباره:
I– دليلاً قوياً مستنبِطاً مراجعة منهجية منتظمة واحدة على الأقل لعدد من التجارب العشوائية المنضبطة جيدة التصميم .(guidelines)
II– دليلاً قوياً من تجربة منضبطة مصممة بطريقة جيدة ذات حجم مناسب.
III– دليلاً من تجارب جيدة التصميم مثل التجارب غير العشوائية، دراسات الفوج (Cohort studies) والسلسلة الزمنية (Time Series) ، أو دراسات الحالات والمجموعات الضابطة.
IV– دليلاً من دراسات جيدة التصميم غير تجريبية من أكثر من مركز أو مجموعة بحثية.
V– آراء جهات معتبرة مبنية على البرهان الإكلينيكي.
وبعد معرفة قوة الأدلة، ما على الممارس الإكلينيكي إلا أن يتجه إلى أقوى دليل متاح كـ Guidelines, Meta analysis، وفي حال عدم توفرهما للحالة المعروضة عليه فيجب أن ينتقل إلى الأدله التي تليها كـ cohort studies, and case control studies وهكذا.
ما نحتاجه في اليمن من أجل اللحاق بركب الأمم المتقدمة في مجال الصحة هو نشر الوعي لمفهوم الممارسة المعتمدة على الأدلة بين كافة مقدمي الرعاية الطبية، من خلال تنظيم ورش عمل مكثفة ودورات تدريبية في منهجية البحث، والتقييم النقدي.
كما يجب أن يكون تدريس EBP جزءًا من مناهج طلاب الطب والصيدلة حيث أنه يوفر للطلاب فرصة لممارسة مهارات الطب المبني على الأدلة والبراهين، ويعزّز استخدام الأدلة في اتخاذ قرارات رعاية المرضى.
ومتى ما تم فهم آليات الممارسة المعتمدة على الأدلة ومعرفة الأدلة الأقوى سنضمن تلقينا لأفضل رعاية صحية بأيدٍ يمنية.
* محاضرة في الجامعة اليمنية الأردنية