الطبية_ محمد العزيزي _ دعاء المطري
لم تكن فاتن عبدالسلام -اسم مستعار- قد تجاوزت الخامسة عشر من عمرها عندما وصلت إلى عيادة أخصائية الاضطرابات النفسية و العصبية الدكتورة منيرة النمر، بصنعاء وهي تحمل حروق وجروح موزعة على كامل جسدها.
أصيبت الفتاة التي ما تزال في سن الطفولة بحالة نفسية “الفصام اللامنتظم” وبدلا من عرضها على أخصائي نفسي، قرر والدها معالجتها بـ الكي والضرب اعتقاداً منه بأن ابنته تعرضت إلى مسّ شيطاني يسكن جسدها بعد أن نصحه بعض الأقارب باستخدام هذه الطريقة، وفقا لرواية الدكتورة النمر.
حالة اليافعة فاتن من أكثر الحالات المرضية غرابة، تقول الأخصائية النمر -في حديثها لـ المنصة عوافي- “لقد فقدت الفتاة نسبة كبيرة من قدرتها على الإحساس جراء ما تعرضت له من كي وضرب” واستغرق علاج الجروح العميقة التي طالت وجهها فترة ثلاثة أسابيع، إضافة للعلاج النفسي والدوائي الذي استمر لفترة أطول”.
لقد حصلت أخيرا على الرعاية الطبية اللازمة لجراحها الجسدية والنفسية، على أيدي متخصصين، وسرعان ما استجابت فاتن للعلاج النفسي وتحسنت حالتها تدريجيا لتشفى تماما من “الانفصام” وتعود إلى حالتها الطبيعية، غير أن آثار الجراح ما زالت ترفض مغادرة جسدها وستحملها لفترة ليست قصير، حد وصف الأخصائية النمر.
فاتن ليست المصابة الوحيدة التي مرت بهذه التجربة، فالكثير من النساء ممن يصبن بمرض الانفصام يعشن تجارب مشابهه، بل ربما كانت هي أكثر حظاً من غيرها اللاتي لم يصلن بعد إلى أيادي الأخصائيين وصلن في وقت متأخر.
تختلف تجربة الأربعينية حليمة زكريا “اسم مستعار” عن اليافعة فاتن، إذ ظلت حليمة محبوسة في منزل والدها لـ 17 عاما بعد إصابتها بحالة نفسية.
قد يهمك..بخاخ أنفي مزود بهرمون الحب
وضع حليمة الصحي المتدهور وعدم قدرتها على الحديث بشكل واضح مكّن عائلتها من إيجادها بعد أيام من البحث، لكن هذه المرة تم التعامل مع حالتها بشكل صحيح، فقد تم عرضها على طبيب مختص لتحصل على العلاج والرعاية المناسبة، فبحسب الدكتورة النمر، تحسنت حالة حليمة لتصبح “قاب قوسين من الشفاء التام”، لكنها قررت الانتحار ببندقية والدها بعد أن فقدت الدعم النفسي من قبل عائلتها. تعرضت حليمة لمعاملة لا إنسانية خلال سنوات مرضها في مجتمع يوصم المصاب باضطراب نفسي خاصة النسا، بالعار، وهذا ما دفع عائلتها إلى سجنها حتى تمكنت ذات يوم من الهرب عبر فتحة أحدثتها في سقف غرفتها في منزل العائلة “مبني بشكل شعبي” وفقا لقول النمر التي سردت تفاصيل هروب المريضة من منزلها.
واقع مؤلم
ساهمت الحرب في اليمن في زيادة الاضطرابات النفسية، وما نتج عنها مثل تردي الوضع الاقتصادي وانقطاع المرتبات في المؤسسات الحكومية والإصابات نتيجة قصف المدن والتجمعات السكانية وعدم استقرار الوضع الأمني، في زيادة عدد النساء المصابات بالاضطرابات النفسية.
وفي هذا السياق ترجح منظمة الصحة العالمية في تقرير على موقعها في الإنترنت أن يصاب واحد من كل 11 (9%) باضطرابات نفسية معتدلة أو شديدة من بين الأشخاص الذين شهدوا حروباً أو صراعات أخرى خلال العشر سنوات الماضية.
وبحسب المنظمة “تشير التقديرات إلى أن شخصاً واحداً من كل خمسة (22%) ممن يعيشون في منطقة تشهد صراعات يصاب بالاكتئاب، أو القلق، أو اضطراب الكرب التالي للرضح “حالة صحية عقلية تنطوي على خطر حقيقي على شخص ما أو على المحيطين به”، أو الاضطراب الثنائي القطب، أو الفُصام” مؤكدة إن هذه النتائج تسلط الضوء على التأثير بعيد المدى للأزمات الناجمة عن الحرب في بلدان من بينها اليمن، وإن الأرقام أعلى بكثير منها في وقت السلم حين يعاني واحد من كل 14 شخصا تقريبا من شكل من أشكال المرض العقلي.
وزير الصحة العامة والسكان في صنعاء الدكتور طه المتوكل، عزز ما ذهبت إليه المنظمة الأممية عندما قال -في كلمة ألقاها بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية- بأن ملايين اليمنيين يعانون من اضطرابات نفسية نتيجة الحرب التي تشهدها البلاد منذ مارس 2015.
يأتي ذلك في ظل غياب الرعاية الطبية اللازمة في اليمن وضعف وندرة المؤسسات الطبية المتخصصة في تقديم هذا النوع من الخدمات في مجتمع ما يزال يؤمن باعتقادات قديمة خاطئة مثل المسِّ والعلاج بـ الكي والضرب.
إقرأ أيضاً..الكشف عن علاقة المسكنات بقرحة المعدة والنوبات القلبية
ورغم غياب الإحصائيات الدقيقة بعدد المصابين باضطرابات نفسية في اليمن، بشكل عام، إلا أن مديرة برنامج الصحة النفسية بوزارة الصحة العامة والسكان بصنعاء الدكتورة جميلة الحيفي، تتوقع بأن نسبة من يعانون من حالات نفسية قد تصل إلى 70% من المجتمع، معظمهم لا يحصلون على الرعاية الطبية اللازمة، معيدة أسباب ارتفاع نسبة المرضى إلى الصراع والوضع المعيشي المتردي الذي أفرزته الحرب.
وحول بعض العادات والتقاليد المجتمعية كإخفاء بعض الأهالي للمريضات، قالت ” بالفعل تمثل هذه العادات عائقا أما أي مسح ميداني يستهدف هذه الشريحة، لكن هذا يمكن تجاوزه بمزيد من التوعية”.وأفادت الحيفي -في تصريح لـ منصة عوافي- بأن الحديث عن إحصائية دقيقة بعدد المصابين النفسيين في اليمن يحتاج إلى تنفيذ مسح ميداني يشمل جميع المحافظات في اليمن، مؤكدة تعذر تنفيذ مثل هذا المسح في الوقت الراهن بسبب الحرب وعدم توفر الإمكانيات المالية.
الوعي بماهية الأمراض النفسية
ليست المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة والكوادر الطبية هي فقط ما يحتاجه المرضى النفسيون في اليمن، إذ تتسلم خطة علاج المريض النفسي والتعامل معه بوعي كبير من قبل الأهل والمجتمع ليحصل على الشفاء تقول الأخصائية النفسية النمر أن مستوى الوعي بالأمراض النفسية في المجتمع اليمني ما يزال قاصرا وضعيفا وبالذات في الأرياف.
تدني مستوى الوعي يؤثر سلبا على مرحلة العلاج، فبحسب النمر يعتقد بعض أقارب المصابين وخاصة النساء أن المرأة تتعرض لنوع من الانتهاك في المستشفيات والمراكز المتخصصة فيحدث أن تأتي العائلة بالمريضة إلى المستشفى ويشترطون لبقاء مريضتهم في المستشفى أن تظل إحدى النساء من عائلتها مرافقة للمريضة رغم أن كادر المستشفى نسائي بنسبة 100% ِ.
ورغم تحسن الوعي مؤخرا بشكل طفيف إلا أن الكثير من النساء لا يحصلن على العلاج ويبقين حبيسات المنازل حتى الموت، مراعاة لعادات وتقاليد خاطئة، وحتى تجنبا لوصمة العار تجاه المرأة المصابة نفسيا من قبل المجتمع.
وفي هذا السياق يرى أخصائي الأمراض النفسية الدكتور عبده محسن الشليلي أن المجتمع اليمني ما يزال يساهم في حرمان المصابة باضطراب نفسي من حقها بالحصول على الرعاية الطبية من خلال نظرته وتعامله غير السليم معها، موضحا أنه يتعامل معها بنوع من الحذر والخوف من الوصمة، خاصة في ظل عدم توفر مراكز مخصصة لاستقبال المريضات.
ويقول الشليلي -في تصريح خاص لـ منصة عوافي- هناك نوع من القساوة في التعامل من قبل الأهل مع المصابات النفسيات امتثالا للعادات والتقاليد كـ التكتم عن المرض خوفا من ضياع فرصتها في الزواج أو تجنبا لحدوث الطلاق في حال كانت متزوجة.
وفي سياق منفصل أفاد الدكتور الشليلي بأن الفصام بالدرجة الأولى ثم الاكتئاب هي الحالات المرضية الأكثر انتشارا بين الرجال، بينما ينتشر مرض الوسواس القهري بين النساء بشكل أكبر من الرجال.
إصلاحات ضرورية
أجمع الأطباء والاستشاريون -ممن تحدثوا لـ عوافي- بأهمية التوعية بحقيقة الأمراض النفسية في أوساط المجتمع من خلال تنفيذ حملات إعلامية شاملة ومركزة خاصة في الأرياف، مؤكدين على أن المرض النفسي يمكن علاجه مثلما يتم علاج الأمراض العضوية.
غير أن رفع مستوى التوعية يقتضي أيضا يجب أن يصاحبه رفع قدرات البلد في الصحة من خلال إنشاء المزيد من المستشفيات والمراكز المتخصصة في تقديم الخدمات الطبية لهذه الشريحة من المرضى إذ تشير إحصائيات وزارة الصحة في صنعاء إلى وجود 7 مستشفيات خاصة بالعاصمة صنعاء. وعدد من المستوصفات والوحدات الصحية النفسية في باقي المحافظات.
وحول إنشاء المزيد من المستشفيات والمراكز الخاصة بتقديم الخدمات الطبية للمصابين بالاضطرابات النفسية يقول مدير مستشفى الأمل الدكتور رياض الشامي أن الجمعية الخيرية للرعاية الاجتماعية لديها رؤية وخطة لإنشاء مدينة الأمل للطب النفسي في صنعاء على مساحة تقدر 730 لبنة ” 32,5 متر مربع”.
ومؤخرا عملت وزارة الصحة في صنعاء على إنشاء عيادات نفسية في 15 مستشفى عاما، بينما تسعى لتوفير أجهزة وأدوات التشخيص الخاصة بالمرضى النفسيين ليتم توزيعها ضمن استراتيجية الوزارة لدعم الطب النفسي، وفقا لمديرة برنامج الصحة النفسية بالوزارة.
خدمات مجانية
رغم كل معوقات حصول المريضة النفسية على العلاج اللازم في اليمن إلا أنه يمكن تجاوزها في حال توفر الوعي اللازم عند المريضة وعائلتها كما حدث مع الثلاثينية خيرية منصور على الرقم الساخن 136 التابع لـ مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري “منظمة مجتمع مدني”، المخصص لاستقبال الاتصالات من المرضى وأهاليهم لتقديم الاستشارات والنصائح الطبية.
تقول منصور -التي تعمل مدرسة للغة العربية- ” أصبت قبل عام باكتئاب شديد نتيجة فقدان وظيفتي، ونصحتني زميلتي بالاتصال بالخط الساخن” حصلت من خلال الاتصال على عدد من النصائح عبر مختص نفسي، لكنه طلب منها ضرورة زيارة مختص في المؤسسة في أقرب وقت.
رحب والدها بالفكرة واصطحبها إلى مقر المؤسسة في صنعاء، المتخصصة في تقديم مختلف خدمات الصحة النفسية وتدخلات الدعم النفسي، مثل الطب نفسي، العلاج، الإرشاد أسري، الاستشارات نفسية متقدمة عبر مختصين.
وبحسب منصور، حصلت في المؤسسة على النصائح والإرشادات والأدوية المناسبة مجانا، لتتخلص من متاعبها النفسية وتعود لحالتها الطبيعية، مضيفة “لقد غيرت النصائح والإرشادات نظرتي للحياة، وأصبحت أكثر تفاؤلنا وإقبالا على الحياة”.
المادة نقلاً عن منصة عوافي