تقرير خاص: عبدالملك الجرموزي
في ألمانيا التي تبعد عن اليمن بنحو 5,151 كم، احتوت شقة صغيرة بمدينة بريمن أحلام الشاب اليمني هاشم الغيلي (32 عاماً)، الذي أراد والده أن يصبح مزارعاً، وأن يتعلم فن الزراعة منه، لكنه قرر أن يضع نفسه في مكانة علمية تليق بطموحه، وقد حقق ما أراد في ظرف 10 أعوام فقط.
المسافة التي كان يقطعها الفتى هاشم الغيلي قبل سنوات، من قريته في جبال المحابشة بمحافظة حجة شمال غربي اليمن، إلى العاصمة صنعاء طلباً للعلم، أثمرت تفوقاً علمياً تخطى حدود اليمن وجعلته واحداً من نجوم العلم وصاحب حضور معرفي نافع.
قد يهمك..احترسوا .. لقاحات خطرة في السوق الدوائية اليمنية
كان هاشم صاحب شخصية مستقلة منذ صغره، لذا لم يستجب لرغبات والده في أن يصبح مزارعاً أو حتى بائع قات (باعة القات في مدينة حجة يحققون أرباحاً طائلة)، وأصر على إكمال دراسته وتعليمه وحين أظهر تفوقاً وتميزاً لافتاً لم يختار دراسة الطب أو الهندسة كما جرت عادة الطلبة المتفوقين في اليمن، لكنه قرر التخصص في التكنولوجيا البيولوجية.
حول الغيلي حبه للعلم والمعرفة إلى فيديوهات تشرح بشكل مبسط الألغاز العلمية المتعلقة بجسم الإنسان ومحيطه، ثم ينشرها على صفحته في الفيس بوك التي يتابعها أكثر من 33 مليون متابع، لتحصد في أٌقل من خمس سنوات قرابة الـ11 مليار مشاهدة.
في العام 2015 أنتج هاشم أول فيديو علمي له، لكنه لم يتوقع أن يحقق مشاهدات زادت على الثمانية ملايين ، رغم أن زمن الفيديو لم يتجاوز الدقيقة. كانت فكرة الفيديو رائعة ومبتكرة، عن غواص يسبح في أعماق البحار بين قارتين.
هذا الفيديو كان فاتحة خير على الغيلي، وقد تحول باحث البيولوجيا الجزيئية إلى منتج ومخرج للتقارير والأفلام العلمية القصيرة على منصات التواصل الاجتماعية وواحد من أبرز نجومها.
يقول هاشم في مقابلة تلفزيونية مع قناة DW الألمانية ” الحلم، أي حلم، يمكن أن يتحقق حتى ولو بإمكانيات بسيطة، أو بمجهودات بسيطة.. كل ما عليك فعله هو إحاطة نفسك بالأشخاص المناسبين لتتمكن بمساندتهم من إخراج أفضل ما لديك، فبالعزيمة والإصرار يمكن أن تحقق ما تريد.. إذا كان بإمكان الآخرين تحقيق أحلامهم، أنت أيضاً بإمكانك تحقيق أحلامك”.
شغف بالظواهر الطبيعية
كان هاشم حريصاً على العلم، وشغوفاً بقراءة المجلات العلمية، ومتابعة الأفلام الوثائقية العلمية خصوصاً تلك التي تتحدث عن الظواهر الطبيعية وعلم الفلك.
في صغره، جرب الكتابة لمجلات أطفال عربية شهيرة كـ”ماجد، والعربي الصغير” وقد قامت تلك المجلتين بنشر مشاركاته العلمية وحتى الكوميدية التي كان يحصل عليها من مصادر متعددة، وهو أمر جعله يشعر بالفخر، وحفزه على توسيع دائرة اهتماماته العلمية، وتنمية مداركه المعرفية، والمواظبة على اقتناء مجلة “العلوم” الأمريكية بنسختها العربية التي كانت تطبع في دولة الكويت، حيث وجد فيها بيئة خصبة ضاعفت من محبته للعلوم، وحولته إلى واحد من أبرز نجومه.
تعلقه بالعلم كان ينمو معه، حد أنه سعى لمغادرة اليمن لمتابعة دراسته، وقد حصل بالفعل على منحة من وزارة التعليم العالي لدراسة البكالوريوس في باكستان، حصل بعدها على منحة من منظمة الداد(DAAD) الألمانية لمواصلة الماجستير في ألمانيا، وهناك وجد الغيلي الفرصة متاحة أمامه ليتعلم الكثير على يد خبراء العلوم وفي المختبرات .
بعد حصوله على شهادة البكالوريوس في التكنولوجيا الحيوية، عاد هاشم إلى اليمن حيث انضم إلى الهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس وضبط الجودة، وقد عمل في مختبر الميكروبيولوجي (مختبر الكائنات المجهرية).
كان هاشم يقوم بإجراء فحوصات يومية للأغذية المستوردة، لمعرفة ما إذا كان الغذاء ملوثاً ببكتيريا ضارة، وإن كانت كذلك، يتم رفض الشحنة ومنع بيعها في الأسواق اليمنية.
لم يستمر هاشم طويلاً في عمله ذاك داخل اليمن، بعد ستة أشهر غادر إلى ألمانيا لمواصلة دراسة الماجستير.
يعتبر الغيلي انتقاله من الدراسة النظرية في باكستان إلى العملية في ألمانيا، بمثابة نقلة نوعية لمسيرته العلمية وحتى العملية.
في ألمانيا فرص التعليم وفيرة ومتاحة، حيث بالإمكان الانضمام لفرق علمية والقيام بمشاريع خاصة في مجال البحث العلمي بمعية فرق علمية وداخل مختبرات متكاملة ومزودة بأحدث الأجهزة والمواد العلمية، هناك أيضاً حظي الغيلي بفرص للمشاركة في العديد من المؤتمرات العلمية ومناقشة رسالته العلمية في جامعة جاكوبز، كل ذلك ساعده على تطوير مهاراته في شرح وتبسيط العلوم وبناء علاقات متينة مع خبراء في علوم الأحياء.
أفكار مشتركة
ارتبط هاشم بعلاقة وثيقة مع استاذه، رولاند بينز، استاذ التكنولوجيا الحيوية الجزيئية بجامعة جاكبوز ببريمن في ألمانيا، وفي مختبر بينز، أنجز الغيلي رسالة الماجستير خاصته في مختبره في الوقت المحدد له، ما أثار إعجاب استاذ التكنولوجيا الحيوية به، لتتطور العلاقة بينهما لتصبح أكثر من مجرد علاقة استاذ بطالبه، فقد أصبحا صديقان يتشاركان أفكاراً علمية ويتحدثان باستمرار عن أمور علمية وتاريخية وحتى اجتماعية خاصة.
رغم أن بينز كان بمثابة محطة هامة في حياة هاشم العلمية والعملية، إلا أن حب الشاب اليمني لتبسيط وتدريس العلوم، دفعه إلى تغيير وجهته ووظيفته من العمل في المختبر إلى نشر العلوم عبر منصات التواصل الاجتماعي، فقد كان يحز في نفسه قيام العلماء باكتشافات كثيرة لم يعلم بها أغلب الناس، لذا قرر تحميل نفسه مسؤولية تبسيط تلك الاكتشافات وإيصالها للناس كي يتعرفوا على انجازات علمية مهمة لها تأثير بالغ على حياتهم.
المكانة العلمية التي وصل إليها هاشم الغيلي، جعلته محط اهتمام الملايين حول العالم، وتحولت صفحته في الفيس بوك كما لو أنها مزاراً شافياً لكل شغفهم العلمي والمعرفي، إلا أن نجم الشوسيال ميديا حزين بسبب الحضور اليمني القليل جداً في صفحته، وهم من المغتربين والمهتمين.
دعوة للشباب اليمني
يريد الغيلي أن يحضر الشباب اليمني في صفحته بكثافة، وأيضاً في الصفحات والمنتديات العلمية الأخرى، كي يستفيدوا مما يقدمه، فحاجة اليمن شديدة للمشاريع الشبابية العلمية.
ينشر الغيلي في صفحته مواد مرئية وفيديوهات، وصوراً متحركة، وجميعها تتضمن محتوى علمياً مميزاً، ونادراً، وهاماً ، يقوم بتقديمه بطريقة مبسطة، مثيراً بذلك فضول واهتمام ملايين المتابعين الذين تجاوز عددهم الثلاثين مليونا.
يعمل هاشم حالياً مديراً لموقع “مرصد المستقبل”، وهو موقع متخصص بنشر العلوم والتكنولوجيا بأسلوب مبسط ومميز وباللغة العربية، وللموقع صفحة على الفيس بوك حيث يتابعها ٤.٦٢٢.٥٩٤ من الأشخاص، ويقوم بنشر فيديوهات وإنفوجرافيك ومقالات يومية عن أحدث الاكتشافات العلمية والتكنولوجيا.. أما صفحته باللغة الانجليزية فيتابعها أكثر من 33 مليون و670 ألف شخص.
“المحاكاة” أول الأفلام
صيف العام 2019، أنتج وأخرج الغيلي، فيلمه الأول “محاكاة”، اعتمد الفيلم على مجموعة نظريات علمية من بينها نظريات تقول إن الكون بما فيه عبارة عن محاكاة، وإن كل ما فيه من بشر ونجوم وكواكب عبارة عن جزء من هذه المحاكاة التي يتم التحكم بها من قبل أشخاص آخرين داخل كون آخر، فيما البشر في الأرض داخل كون ثانوي، يتحكم به الكون الأول “الأم”.
فكرة الفيلم شيقة، ومشاهدته تثير المخاوف، لكنه يجعلك تتساءل عن مكان وجودنا، وكيف بدأت الحياة؟.
قصة الفيلم، عبارة عن كائنات فضائية لديها قدرة ذكاء هائلة تمكنها من صناعة المحاكاة، ووضع البشر فيها لدرجة أنهم يستخدمون البشر والكائنات الأخرى ويستخرجون الطاقة منهم لإحياء موتاهم.
اعتاد هاشم مواجهة التحديات، وتخطيها، وفي هذا الفيلم تحدى نفسه في مجال جديد عليه، لم يدرسه لكنه قرأ عنه، وقد عُرف عنه نشر فيديوهات علمية على صفحته منذ العام 2015، إنها خطوة صعبة تختلف عن الفيديوهات التي ينتجها ولا تزيد مدتها على الدقيقتين أو الثلاث.
أراد اليمني الممتلىء شغفاً وطاقة إيجابية، تطوير مهاراته بعمل جديد، وقد سنحت له فرصة صناعة الأفلام التي كان يرغب بها بشدة، رغم عدم دراسته لها، وتخصصه في علوم التكنولوجيا الحديثة. وبالتأكيد واجهته صعوبات عند صناعته لفيلم محاكاة، بسبب قلة خبرته في هذا المجال، لكنه حتماً خرج من هذه التجربة بعديد فوائد ستجعله يقدم أفلاماً أكثر تكاملاً وإثارة وتشويق.
معدن نفيس
في أحاديث صحفية وإعلامية عديدة، يُعبر الغيلي عن سعادته لأن ما يقدمه من أعمال علمية تساعد الكثير من الناس حتى أن بعضهم أتخذوا قرارات مصيرية تتعلق باختيار تخصصاتهم وحتى حياتهم العلمية.
كما يتحدث بارتياح عن كم الإيميلات والرسائل التي تصله حاملة الشكر له والثناء عليه وعلى أعماله التي كان لها الفضل في هداية كثيرين إلى وجهاتهم العملية الصائبة.. هذا هو الانجاز الحقيقي بالنسبة للغيلي.
يرى الغيلي أن مواقع التواصل الاجتماعي، مثالية لعرض إبداعات الشباب وابتكاراتهم ومواهبهم، ويحث على استغلالها في الترويج لهم، وينصح الشباب اليمني بتوسيع نطاق تواجدهم في السوشيال ميديا من النطاق المحلي والعربي إلى العالمي، وهو ينصح بذلك لأنه مؤمن بموهبة الشباب اليمني وأحقيتهم في الوصول لكل العالم..
وثمة موقف أظهر به الغيلي كم أن معدنه نفيس، وقد احتفى به الإعلام الألماني ثم العالمي منتصف العام 2018، حيث تبرع بمبلغ 50 ألف يورو لجامعته في برلين، وقد قالت الجامعة أن هذا المبلغ هو أكبر مبلغ قدم لها غبر تاريخها، لكن الغيلي لم يعتبره تبرعاً وإنما رداً للجميل وتعبيراً عن العرفان.
ومؤخراً، اختارت مجموعة من الشركات العالمية، ومنها فيسبوك وتويتر وجوجول وسامسونج وأدوبي، الغيلي للمشاركة في مهرجان كان ليونز الدولي للإبداع في مدينة كان الفرنسية.
هذا الاختيار يأتي كتكريم للشاب اليمني ونشاطه العلمي اللافت الذي يعرضه على صفحته الخاصة في الفيس بوك.
المهرجان من أكبر المهرجانات التي تقوم في المدينة الفرنسية، وهو خاص بالإبداع في مجال توصيل المعلومات والدعاية والإعلان وأحدث الطرق الجديدة لنشر المعرفة، وقد ألقى هاشم في المهرجان محاضرة بالصحة وأساليب نشر المعلومات عن الطب والصحة العامة وعن طريق إنتاج الفيديوهات التي يقوم بنشرها على الفيس بوك.
إقرأ أيضاً.. ابتسامة يمنية في نيويورك
حضر المهرجان أشهر المصممين والممثلين ورؤساء الشركات من مختلف بلدان العالم، والمختصين بالدعاية والإعلان، وقد ناقش طرق زيادة عدد المشاهدات للفيديوهات والوصول إلى أكبر عدد ممكن من المتابعين، فضلاً عن الخطوات اللازمة لنشر المعلومات العلمية إلى الجمهور العام بأسلوب سهل ومبسط.
مازال هاشم تواقاً للمزيد من المعرفة والتطور العلمي.. ويبدو أن هذا الشباب الثلاثيني ذو قسمات الوجه الجميلة، وتصفيفة الشعر الكلاسيكية الساحرة، والنظرات الجذابة قد سبق الكثيرين إلى المستقبل.
الآن.. بإمكانك الإشتراك في قناة الطبية في اليوتيوب
المصدر : https://alttebiah.net/?p=18185