طارق محمد السیاغي
أنا الذي قلت للصیدلي یوماً: أعطني أصابع أمي! فقال لي : وما أصابع أمك …!؟ قلت له : دواء للأرق، كنت قدیماً إذا أرقت تمسح على رأسي فأنام.
مقولة شھیرة كھذه، للكاتب المصري أدھم الشرقاوي، استوقفتني كثیرا أمام أصابع أمي، ودورها السباق والعظيم، في تطبیبي ومداواتي، منذ السنوات الأولى من مرحلة الولادة والطفولة المبكرة، لدرجة ظل معھا الاعتقاد لديّ أنھا الأم، والطبیبة، والممرضة، والصیدلانیة، بل وصانعة الدواء، ومن بیدھا یكمن الشفاء.
رغم أن أمي لم تكن تقرأ ولا تكتب، إلا أنها كانت تمتلك خبرة وتجربة تراكمیة، تمتد بامتداد مرحلة الإنجاب، وأثبتت قدرتها في التعامل مع الحالات المرضیة لمن سبقني من الأشقاء والشقیقات- وترتیبي التاسع والأخیر بالمناسبة.
قد يهمك..رسمياً.. الصحة العالمية تؤكد انتشار الحصبة وشلل الأطفال في اليمن
لم تتردد أمي في حدود الممكن والمتاح، في مواجهة أي عارض صحي كان يلمُّ بي، ولم تكن تستسلم لحالة العجز وقلة الحيلة عندما تستنزف كل ما لديها، بل كانت تسارع بحملي إلى الطبیب، بمشاعر الأم المفعمة بالحب والحنان، والخوف على طفلھا المریض، وكانت لسان حالي المخلص والأمين، في وصف أدق تفاصيل حالتي المرضية للطبيب، بما يضمن تجاوز ذلك العارض بأمان.
في مرحلة لاحقه، أدركت أن أمي لیست ھي من یصنع الدواء، لكني لم أتصور أن یكون الدواء في جله أو حتى بعضه منتجا غیر وطني، وھذا ربما ما یفسر بقاء الإحساس لدي بالطمأنينة والأمان على حالة، وذلك انطلاقا من واحدية الأم والوطن وشركاته الوطنية المصنعة للدواء.
لم یعتریني شعور بالخوف والفزع، وكان سببا وراء تعاظم الاهتمام لدي بالتخصص في مجال الصیدلة، والحرص على متابعة ما يعتمل في الساحة الوطنية في مجال الصناعات الدوائية وأهميتها في تحقيق الأمن الدوائي والتنمية الصحية المستدامة ككل، إلا عندما أصيبت أمي بداء السكري.
لاحظت حينها مدى الخوف والانكسار في عینیھا، وما يبعثه ذلك من شعور بالحسرة والألم، كما عايشت على أثر ذلك حجم المعاناة المریرة، التي يواجهها الكثير من أصحاب الأمراض المزمنة، في رحلة البحث عن جرع العلاج الضرورية واللازمة والمنقذة للحياة، على انعدام بعضها، ومحدودية بعضها الآخر، وارتفاع ثمنه، وما يكلف الخزينة العامة للدولة من مبالغ مالية باهظة سنوية بالعملة الصعبة.
كما أدركت مدى حقيقة أن الاتجاه نحو معالجة الاختلالات التي تعتري المنظومة الصحية الوطنية على كثرتها وتشابكها وترابطها، يبدأ من التوجه الوطني المسؤول والجاد نحو الاهتمام بتنمية وتطوير الصناعات الدوائية، ودعم وتشجيع مراكز بحوثها وإنتاجها وتطويرها، والسعي نحو توفير المناخ الملائم لبناء صناعات دوائية وطنية قوية ومنافسة، وقادرة على تحقيق الأمن الدوائي، والتنمية الصحية المستدامة.
اقرأ أيضاً..مقاومة المضادات الحيوية ضمن أكبر 10 تهديدات صحية عالمية
يلاحظ اليوم أن الاهتمام بمجال الصناعات الدوائية بدأ يحظى باهتمام غير مسبوق على المستوى الرسمي والشعبي، لم يحظ به منذ دخول اليمن عالم الصناعات الدوائية مطلع الثمانينات، الأمر الذي يضاعف من حجم الآمال والتطلعات في أن يرقى الاهتمام بها كصناعة حيوية ذات أبعاد استراتيجية، إلى مستوى ما فرضته المرحلة الراهنة من تحديات، تجعل من التركيز عليها يحتل أهمية وأولوية قصوى، لا تقل أهمية عن التوجه اليوم نحو تحقيق الأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات الغذائية والزراعية والصناعية.
في الواقع، أن المتابع الحصيف لما يشهده عالم صناعة الدواء من عمليات تزوير وغش وتهريب، وممارسة للاحتكار والابتزاز، وما تفرزه الحروب البيولوجية المستعرة من أمراض فتاكة، يدرك أكثر من أي وقت مضى، مدى الحاجة الملحة لتوطين وتحقيق الأمن الدوائي، تماما كالتسليم بحقيقة أن لا أصابع يمكنها أن تحل محل أصابع الأم في تأمين الدواء والغذاء.
*أحد المقالات التي وصلت للقائمة القصيرة والمرشحة للفوز بمسابقة شفاكو بالشراكة مع المجلة الطبية للكتابة عن الصناعة الدوائية الوطنية
المصدر : https://alttebiah.net/?p=21634