د. ص. مطيع البوكري
يقال إن الغموض المتعمد في الكتابة غالبًا ما يكون حيلة من الكاتب للإيحاء بأهمية ما يكتب.. يصح هذا في الفكر والفلسفة والأدب كثيرًا لكنه ينسحب على مجالات أخرى أيضًا، وفي الطب يكون الغموض حيلة للاحتيال، وإذا ما وجدنا عذرًا للأديب والفيلسوف أحيانًا نظرًا لكون الفكرة بنفسها قد تستدعي التعقيد، لكننا لن نجد عذرًا للطبيب وهو يحيك وصفته الطبية بطريقة مشفرة.
أعتذر لكوني بدأت من فكرة بعيدة، لكنها ضرورية كي تتضح القصة، قصة المرضى مع أطباءهم “المتحذلقين“، مرضى جاؤوا بوجوههم المرهقة والموت يتراءى لهم في كل لحظة، فيهرعون نحو من يظنونهم مصدر للأمل فعند المرض تتحول الدنيا لصورة سوداء قاتمة، ويشعر المرضى أن الغموض يلف حياتهم من كل اتجاه، فيذهبون ينشدون مصيرا واضحًا لدى “ملائكة الرحمة“ كما اعتاد الناس على وصفهم.
قد يهمك .. 10 ميزات صحية للكركم
مرضى بائسون، يتحاملون على أوجاعهم التي لا تطاق، فيجمعون ما تيسر لهم من المال رغم فاقتهم ولو ببيع بعض ممتلكاتهم من أجل الذهاب إلى الطبيب.. لقد بلغ بهم المرض إلى حال ينظرون بعيونهم الجامدة إلى الموت فلا يرون فيه إلا أنفسهم حتى أنك لو سألتهم عن أمنياتهم فلن يطلبوا غير العافية.. والعافية هدف واضح بالنسبة لهم، بعكس المرض فهو ضيف غريب ومجهول.
لكن من شؤم المرض أحيانا أنه يسوق بعض من هؤلاء المرضى إلى أطباء ضمائرهم ميتة، تجردوا من كل معاني الإنسانية وليس في قلوبهم قليل من الرحمة ، يعتبرون مرضاهم وسيلة لجني المزيد من المال، فيفترسون المريض كما يحلوا لهم منذ دخوله العيادة حتى شراء الأدوية، وإحدى وسائلهم لتحقيق ذلك، هي “ الروشتات المشفرة“.
وصفاتهم عبارة عن طلاسم ورموز يصعب فك شفراتها لأي صيدلي كان، يظل المريض ينتقل من صيدلية إلى أخرى باحثا عن العلاج وهو ينتفض من وعكة المرض, تضيق عليه الأرض بما رحبت دون أن يتمكن من الحصول على الأدوية التي تضمنتها الوصفة، ليس لأن الدواء غير متوفر بل لأن الرموز التي احتوتها الوصفة الطبية غير مفهومة لكل الصيدليات سوى صيدلية الطبيب نفسه.
لكأن المريض تطارده الأوجاع من كل مكان، وتزداد الدنيا تلغيزا أمامهم، تجتمع عليه الويلات بسبب لؤم شخص متوحش لبس اسم طبيب حينما لم يكتف برسوم التسجيل والفحوصات بل أرغم المريض بالعودة إلى الصيدلية التابعة له، وشراء الدواء بسعر مضاعف، وجعل المرضى يغادرونه متألمين وساخطين..وياله من سلوك لئيم، مصدره بعض الأطباء هذه المرة للأسف.
إن ظاهرة ابتزاز المرضى بهذه الطريقة الرخيصة التي لا تمت لأخلاقيات المهنة المقدسة بأي صلة، وبأنها تشكل ظاهرة خطيرة تؤزم من معاناة المرضى وتضاعف من مصائبهم في الوقت الذي يعاني فيه المواطن من كدر العيش وضيق اليد، وفي ظل غياب الدور الرقابي من جهات الاختصاص يتفرعن الأطباء وتتضاعف الكارثة.
قضية الوصفات المشفرة، ورغم ما فيها تحايل على المرضى، إلا أنها لم تحظى باهتمام وسائل الإعلام، ولم تعرها جهات الاختصاص أي أهمية، بينما بقي المرضى يبتلعون الألم والخيبة معا، ليس هذا فحسب بل إن الأرقام في تزايد مستمر وكأن الجميع يبارك هذه المشكلة.
إقرأ أيضاً .. نظافة الأيدي توحد العالم صحياً
يجب أن يتحلى الجميع وفي مقدمتهم الأطباء بالإنسانية والأمانة والرحمة، لأن الناس تثق بهم، و لا يعقل أن يفكر الشخص الذي هو موكل بحماية حياة الناس بعقلية تاجر، ففي حضرة المرض والألم وكل ما يقترب من وجع الموت، تتلاشى دوافع الجشع لدى البشر، حتى أكثرهم قسوة يلينون.
هذا ما هو مفترض أن يكون عليه كل إنسان سويّ– فما بالك بالطبيب، الأصل أن يكون هو أكثر البشر امتلاءً بقيم الإنسانية والنبل وأبعدهم تفكيرا بمنطق الربح.. لكن يبدو لي أن النفس البشرية أكثر تعقيدا من هذا، وأن قطاع كبير من الأطباء كلما اقتربوا من أوجاع الناس أكثر تبلدت مشاعرهم، لدرجة أن الطبيب وهو يقوم بمعاينة مريضًا منهكًا، لا يستشعر ضرورة مراعاته، وتسهيل عملية تداويه، وتوضيح خطه عندما يكتب له وصفته الدوائية، ويترك له حريته في شراء أدويته من أي مكان يناسبه، بل يصر على تقييده، وربط مصيره بصيدلية واحدة، ليس حرصًا على صحة المريض بالطبع، بل لهدف معروف وتعلمونه، ضمان حصته من الربح.
الآن.. بإمكانك الإشتراك في قناة الطبية على اليوتيوب
Source : https://alttebiah.net/?p=19547